مرضعاته (صلى الله عليه وسلم)
في مكة / قبل النبوة
فإن أول مرضعة تشرفت برضاعه (صلى الله عليه وسلم) والدته الشريفة العفيفة الطيبة : آمنة بنت وهب الزهرية التي رأت من آيات النبوة ما رأت.
ثم ثويبة مولاة أبي لهب التي أرضعت عمه حمزة كذلك، فكان أخاً للنبي من الرضاعة. وهو عمه صنو أبيه ، ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية من بني سعد بن بكر رضع مع ابنتها الشَّيْماء بنت الحارث بن عبد العزى.
وإليك توضيح وبيان ذلك مفصلاً.
1. ثويبة:
أول مرضعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت جارية أبي لهب، وأرضعت النبيّ بلبن ابنها مسروح، وكانت تدخل على النبيّ بعد أن تزوج خديجة فكانت خديجة تكرمها، وأعتقها أبو لهب لما هاجر النبيّ إلى المدينة. وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يبعث إليها من المدينة بكسوة وحلة حتى ماتت بعد فتح خيبر سنة سبع، ومات ابنها مسروح قبلها (1).
فهي أول ما أرضعته وهي مولاة عمه أبي لهب، وكانت قد بشرت عمَّه بميلاده فأعتقها عند ذلك، ولهذا لمَّا رآه أخوه العباس ابن عبد المطلب بعد ما مات، ورآه في شرِّ حالةٍ، قال له: ما لقيت؟ فقال: لم ألق بعدكم خيراً، غير أني سُقيت في هذه ، وأشار إلى النقرة التي في الإبهام بعتاقي ثويبة. وأصل الحديث في الصحيحين.
فلمَّا كانت مولاته قد سقت النبيّ (صلى الله عليه وسلم) من لبنها عاد نفع ذلك على عمّه أبي لهب، فسقي بسبب ذلك، مع أنه الذي أنزل الله في ذمه سورة في القرآن تامَّة وهي سورة المسد.
وقد ذكر السهيلي وغيره أنه قال لأخيه العباس في هذا المنام: وإنَّه ليخفف عني في مثل يوم الاثنين. قالوا: وذلك أنها لما بشرته بمولده (صلى الله عليه وسلم) أعتقها عند ذلك، فهو يخفف عنه مثل تلك الساعة.
تنبيه: هذا الذي مر ذكره هو الذي تذكره كتب السيرة وخلاصته أن أبا لهب لما بشرته ثويبة – وكانت أمة له – بميلاد النبي (صلى الله عليه وسلم) أعتقها فرحاً بميلاد ابن أخيه ثم بعد ذلك لما توفي رؤي – وقيل الرائي هو العباس – في المنام وأنه كان في شر حالة فسئل عن حاله فقال شر حال إلا أنه يخفف عني يوم الاثنين – أي يوم ميلاد النبي (صلى الله عليه وسلم) بعتقي ثويبة فرحاً بميلاد محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فهذا خلاصة ما يفهم من كتب السيرة وينسبون ذلك إلى رواية البخاري له، وزاد الصوفية ومن لف لفهم أن استدلوا بذلك على جواز أو استحباب الاحتفال بالمولد النبوي , وقد رد عليهم المحققون من العلماء ردوداً مقنعة وإليك الصواب والتحقيق في المسألة:
الوجه الأول: لم يجيء في صحيح البخاري أنه يخفف عن أبي لهب العذاب كل اثنين ولا أن أبا لهب أعتق ثويبة من أجل بشارتها إياه بولادة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، فكل هذا من التقول على البخاري. وقد روى البخاري في أول كتاب النكاح من صحيحه في باب: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ سورة النساء (23). من طريق الزهري عن عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان - رضي الله عنهما - أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله! أنكح أختي بنت أبي سفيان؟ فقال: (أو تحبين ذلك). فقلت: نعم لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي ، فقال (صلى الله عليه وسلم): (إن ذلك لا يحل لي). قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة ، قال: (بنت أم سلمة؟!). قلت: نعم، فقال: (لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن) قال عروة: وثوبية مولاة لأبي لهب وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما مات أبو لهب أُريه به بعض أهله بشرّ حيبة قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة2. هذا لفظ الحديث عند البخاري وليس فيه ما تقوله المتقولون. انظر فتح الباري (9/43) رقم (5101).
الوجه الثاني: أن يقال لم يثبت من طريق صحيح أن أبا لهب فرح بولادة النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا أن ثوبية بشرته بولادته ولا أنه أعتق ثويبة من أجل البشارة بولادة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكل هذا لم يثبت، ومن ادعى ثبوت شيء من ذلك فعليه إقامة الدليل على ما ادعاه.
الوجه الثالث: أن يقال إن خبر عروة مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به، والمرسل لا يثبت به شيء. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وعلى تقدير أن يكون موصولاً فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به3. انتهى.
والمقصود هاهنا أن الرؤيا التي ذكرها عروة لم تثبت من طريق صحيح متصل فلا يعول عليها. وأما التخفيف عن أبي لهب في كل يوم اثنين فهذا لم يثبت بإسناد صحيح يعتمد عليه، بل ولم يرو بإسناد ضعيف، وإنما ذكره بعض المؤرخين بدون إسناد.
ومثل هذا لا ينبغي إن يتلفت إليه فضلاً عن أن يحتج به. وفي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن زينب بنت أمّ سلمة عن أمها في حديث طويل فقال - عليه الصلاة والسلام-: (أرضعتني وأبا سلمة (وهو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي) ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن)4 . وثويبة مولاة أبي لهب، كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبيَّ (صلى الله عليه وسلم)5.
الثانية : حليمة السعدية:
كانت حليمة بنت أبي ذؤيْب السعدية أمّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي أرضعته تحدِّث: أنها خرجت من بلدها مع زوجها، وابن لها صغير ترضعه مع نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرُضعاء، قالت: وذلك في سنة شهباء(6) لم تُبق لنا شيئاً. قالت: فخرجت على أتان لي قمراء(7) معنا شارف(
لنا، والله ما تبض(9) بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبيّنا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغديه قال ابن هشام: ويقال: يغذيه(10) ولكنّا كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك، فلقد أدمْتُ(11) بالركب، حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، حتى قدمنا مكة نلتمس الرُّضعاء، فما منّا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فتأباه، إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك: أنا إنّما كنّا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنّا نقول: يتيم؟! وما عسى أن تصنع أمه وجدُّه؟ فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم، فلآخذنه قال: لا عليكِ أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره.
الخير الذي أصاب حليمة:
قالت: فلما أخذته رجعت به إلى محلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن.
لطيفة:
ذكر غير ابن إسحاق أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان لا يقبل إلاّ على ثديٍ واحدٍ، وكانت تعرض عليه الثدي الآخر، فيأباه كأنه قد شعر – عليه السلام- أن معه شريكاً في لبنها، وكان مفطوراً على العدل، مجبولاً على المشاركة والفضل12. فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنّا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لَحَافِل، فحلب منها ما شرب، وشربت معه حتى انتهينا ريّاً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة. قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تَعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت أتاني، وحملته عليها معي، فوا الله لقطعتْ بالرّكب ما يقدر عليها شيء من حمرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب ويحك! أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها لشأناً، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعاً لبُناً فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعاً لبُناً، فلم نزل نتعرَّف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصله؛ وكان يشبّ شباباً لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنته حتى كان غلاماً جفراً.
رجوع حليمة به إلى مكة أول مرة:
قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته، فكلّمنا أمّه، وقلت لها: لو تركت بُني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردَّته معنا13.
زوج حليمة ونسبه:
اسم أبيه من الرضاعة (صلى الله عليه وسلم) الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة بن مَلان بن ناصرة بن قصيّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن قال ابن هشام ويقال: هلال بن ناصرة.
أولاد حليمة:
قال ابن إسحاق: وإخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وخذامة بنت الحارث، وهي الشيماء، غلب ذلك على اسمها فلا تعرف في قومها إلا به. وهم لحليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث، أم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويذكرون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمّها إذا كان عندهم.
قال ابن إسحاق: فاسترضعت عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن قصيَّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيّلان.
فائدة: وقيل (فصيّة) بالفاء تصغير: فصاة، وهي النواة، وقال أبو حنيفة: حب الزبيب14.
الثالثة: امرأة من بني سعد غير حليمة، روى ابن سعد عن ابن أبي مليكة – رحمه الله - أن حمزة كان مسترضعاً له عند قوم من بني سعد بن بكر، وكانت أم حمزة قد أرضعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو عند أمه حليمة.
الرابعة: خولة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن عدي بن النجار، أم بردة الأنصارية، قال الإمام الشامي: ذكر الإمام أبو الحسن إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم المعروف بابن الأمين أنها أرضعت النبيّ (صلى الله عليه وسلم). وقال: ذكرها العدوي وتابعه في العيون والموارد ، وهو وهم إنما أرضعت ولده (صلى الله عليه وسلم) إبراهيم، كما ذكر ابن سعد وأبو عمر وغيرهما وعليه جرى الحافظ في الإصابة كما رأيته بخطه، ونصه بعد أن ساق نسبها: مرضعة ابن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وهذا هو الصواب خلافاً لما في بعض النسخ السقيمة في إسقاط ابن، ولم أر من نبّه على ذلك ، ثم بعد مدة رأيت القاضي عز الدين بن القاضي بدر الدين بن جماعة - رحمهما الله تعالى - ذكر في سيرته المختصرة ابن الابن وهم في ذكرها في الرضاع ، وأن بعض العصرين حلوا ذلك عنه من غير تعصب. انتهى فسررت بذلك وحمدت الله تعالى". انتهى15.
الخامسة: أم أيمن بركة ذكرها القرطبي. والمشهور أنها من الحواضن لا من المراضع.
السادسة والسابعة والثامنة: قال أبو عمر - رحمه الله تعالى - : أنه (صلى الله عليه وسلم) مُرَّ به على ثلاث نسوة من بني سُليم فأخرجن ثديهن فوضعناه في فيه فدرَّت عليه ورضع منهن.
التاسعة: أم فرْوة ذكرها المستغفري: ثم روى عن ابن إسحاق عن أم فروة ظئر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إذا أويت إلى فراشك فاقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ سورة الكافرون. (فإنها براءة من الشرك) قال أبو موسى المديني - رحمه الله - اختُلف في راوي الحديث: فقيل : فروة ، وقيل : أبو فروة ، وقيل : أم فروة ، وهذا أغرب الأقوال. قال الحافظ في الإصابة: بل غلط محض وإنما هو أبو فروة ، وكان بعض رواته لمَّا رأى عن أبي فروة ظئر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ظن أنه خطأ والصواب أم فروة ، فرواه على ما ظن فأخطأ هو، واسم الظئر لا يختص بالمرأة المرضعة بل يُطلق على زوجها أيضاً، وقد أخرجه أصحاب السنن الثلاثة من طرق عن ابن إسحاق عن ورقة بن نوفل عن أبيه. هكذا أخرجه أبو داود والنسائي من رواية إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق مجرداً وفيه على أبي إسحاق اختلاف وهذا هو المعتمد. انتهى
العاشرة: أمه (صلى الله عليه وسلم) أرضعته سبعة أيام. ذكر ذلك جماعة منهم صاحب المورد والغُرر16.